رشيد كرامي رجل الدولة
بقلم الرئيس سليم الحص
في ذكرى اغتيال المغفور له الرئيس رشيد كرامي قبل إحدى وعشرين سنة نستحضر صورة رجل الدولة بامتياز في زمن عزّ فيه وجود رجال الدولة بما يتحلّون به من سمات وشيم وفضائل.
ما اكثر رجال السياسة في هذا البلد الصغير على ندرة رجال الدولة. والمحترف السياسي هو في مفهومنا ذاك الذي يسعى للوصول الى السلطة، أكانت اشتراعية ام تنفيذية، واذا حل في السلطة فهو يسعى الى البقاء فيها، واذا خرج او أُخرج منها فهو يسعى الى العودة اليها. فالاحتراف السياسي، بعبارة أخرى، مرادف ببساطة للوصولية في الحياة العامة. والوصولية بهذا المعنى ليست بالضرورة ذات مدلول سلبي او شائن. فالحقيقة التي لا مراء فيها ان الديموقراطية، وهي قيمة حضارية مركزية في العصر الحديث، لا وجود لها الا بوجود حياة سياسية ناشطة، ولا وجود لحياة سياسية من دون سياسيين يمارسونها متفرغين او شبه متفرغين. اما نخبة الساسة فهم رجال الدولة. ورشيد كرامي كان رمزاً ساطعاً من رموز رجال الدولة في تاريخ لبنان الحديث.
رجل الدولة هو رجل السياسة الذي لا يسعى للوصول الى السلطة بأي ثمن، بل هي التي تسعى اليه. الا انه لا يمانع، لا بل لا يتردد، في تحمل المسؤولية العامة اذا ما دعا الواجب الوطني والقومي. تعلمنا من التجارب ان المسؤول يبقى قوياً الى ان يطلب امراً لنفسه، ورجل الدولة هو الذي يمارس السلطة، نائباً او وزيراً او رئيساً، ويبقى قوياً، أي انه لا يطلب أمراً لنفسه. انه يُقبل على تولي المسؤولية من غير ان يستغل موقعه من قريب او بعيد في جني مكاسب ذاتية آنية سواء على الصعيد المادي او المعنوي. فهو لا يثري مستفيداً من موقعه، ولا يفرّط بمصلحة عامة في طلب جاه زائف او أجوف. هو الذي ينذر نفسه لأداء موجبات الموقع الذي يشغله محتسباً، اي من دون اعتبار لثمار او منافع يجنيها شخصياً.
هكذا كان الرئيس الشهيد رشيد كرامي. لعله السياسي الذي كرّس اطول شطر من حياته العامة في رئاسة الوزراء، معاصراً خمس رئاسات للجمهورية، في عهود الرؤساء كميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو وسليمان فرنجية وأمين الجميل. وهو معروف بأنه انتهى في مثل الحال التي بدأ بها من حيث الثروة والجاه.
ورجل الدولة، كما علّمنا رشيد كرامي، هو الذي يحسن معطيات الحكم مهما بلغت من التعقيد والشدة والتأزم. فهو دوماً يتحلى بالحلم وسعة الصدر وطول الأناة. فما خرج عن طوره مرة، وما بارح في أدائه السياسي يوماً حيّز التهذيب اوالحصافة او اللياقة او الاخلاقية. فالتشهير والابتزاز والقدح والذم والمزايدة ليست من شيمه.
عايشتُ شخصياً رشيد كرامي، إذ كان على رأس حكومته الاخيرة وكانت ائتلافية، شكلت عقب مؤتمر لوزان عام 1984 في عهد الرئيس الشيخ أمين الجميل، فضمّت من جانب الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل، ومن الجانب الآخر، الى الرئيس كرامي، وليد جنبلاط ونبيه بري. ولقد لفتني في رشيد كرامي هدوؤه وطول أناته وتقديمه الشأن العام، المصلحة العليا، وطنياً وقومياً، على اي اعتبار آخر. كان الظرف عصيباً للغاية، وكان مجلس الوزراء يتعرض لضغوط في غاية الشدة إذ كانت الأرض تشتعل صدامات واشتباكات ونزاعات. واذكر يوما ان النقاش داخل مجلس الوزراء احتدم حول قضية معينة، لكن لغة التخاطب بقيت في حدود الانضباط بفضله. وجاءت لحظة ران فيها الصمت والوجوم على الجلسة، فما كان من رشيد كرامي الا ان جال بطرفه على القابعين حول طاولة مجلس الوزراء وقال بهدوئه المعهود: "يسّر ولا تعسّر، انما السلبية مميتة". فانفرجت الأسارير ومعها اجواء الجلسة وعادت للحوار وتيرته البناءة.
لم تلبث الخلافات بين اهل الحكم ان اشتدت خلال تلك الحقبة من التأزم العنيف في البلاد، فاذا بحال من الفرقة تبلغ حدود القطيعة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. فلم يعد مجلس الوزراء يلتئم. فابتدع الرئيس كرامي ما عرف بالمرسوم الجوال الذي استخدم في تصريف شؤون الدولة من دون الحاجة الى عقد جلسات لمجلس الوزراء، فكان يُكتفى بتوقيع الوزير المختص الى جانب رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية. لقد كان الطبيعي في مثل تلك الحال ان يستقيل رئيس الحكومة الا ان الظرف العصيب لم يكن يسمح بتبديل حكومي وفق القواعد الديموقراطية.
دفع رشيد كرامي في نهاية المطاف حياته ثمن عناده في الحق. فكان التخلص منه غدرا في جريمة اغتيال آثمة، اذ فجرت الطائرة المروحية التي كان يستخدمها في تنقله بين العاصمة بيروت ومدينته الوفية طرابلس. قبض على الجاني وحكم عليه بالاعدام ثم خفف الحكم الى السجن المؤبد. لكن يدا سحرية عادت بعد بضع سنوات فأفرجت عن الجاني بتشريع خاص من مجلس النواب. هكذا غاب رجل الدولة الكبير، ولم يعط حقه في الحسابات السياسية الملتوية، وعاد الجاني الى ممارسة الاحتراف السياسي من بابه العريض
Annahar.com