دل بييرو..أنقِذ الكرة الإيطالية

محمد حجاج
لطالما كنت معجباً منذ طفولتي بأليساندرو دل بييرو، نجوميته الخارقة للعادة، سحره الكروي الذي وقف له دييجو أرمندو مارادونا، أخلاقه الفاخرة، كل شئ. كثيراً ما أبهرتني قوة شخصيته، الثقة بالنفس..الابتسامة من خلف مقاعد الاحتياط حينما تصبح كل الكاميرات "زووم". دوماً ما أُعجبت بطريقة إدارته للمباريات داخل أرض الملعب، خارجه، وفي حياته الشخصية أيضاً! وليس الحديث اليوم عن "تاريخ" من أجل أن نتفق عليه أو نختلف، فلكل رجل نظرة، رؤيا وميزة، فيختلف كل شخص عن الآخر..وتبقى الآراء كمباراة يكثر متابعينها من أصحاب التأييد والرفض، وفي نهاية المباراة "النقاش"، نحيي بعضنا على ما تبادلنا من أفكار.
فاليوم، وبعدما صارت الكرة الإيطالية على "كف" عفريت، تنتظر من يدَاويها..راح الناس يقولون: فلتحيا المواهب، وليعتزل من يعتقد أنه سيعيش دهراً آخر! وقبل أن نستهل "جلستنا"، علينا أن نعلم أن المواهب في ايطاليا ميتة ليس إلا لأن المتابعين في برج المراقبة لا يعرفوا شيئاً عن الوطنية سوى "كالشيوبولي"، ولم يفكروا يوماً بتطوير الكرة الإيطالية، لأنهم بالأصل- لو كانوا يعرفوا شيئاً عن المواهب..لكانوا بالأول حدَثوا ملاعبهم التي صارت "تأريخية"!
فالناس أقرت بأن دل بييرو انتهى فعلياً ولم يعد له "مرمى" قيمة، أو مغزى فائدة، ولكنه في حقيقة الأمر مازال قلبه ينبض بالأهداف وأن عقليته مبرجمة على عدم الاستسلام، ومن يعتقد بأن فائدته انتهت..بل هي بدأت. فدل بييرو الذي دخل عامه السادس والثلاثون يرفض حتى اليوم اعتزال المهمة الوطنية ويقول دائماً: مستعد لأن ألعب بقدم واحدة للمنتخب الإيطالي. وفيما رفض في كل مرَة الأرقام والشهرة من آرسنال، مانشستر يونايتد، ميلان، وخاصة تلك التي كانت مغرية إبان سقوط يوفنتوس للهاوية..نصل هنا لبيت القصيد، فتنتصف جلستنا: دل بييرو "الوطني"..أنقِذ لهم الكرة الإيطالية.
دل بييرو الذي لو قُدِرَ له ومسك زمام الأمور فصار الرئيس في اتحاد الكرة الإيطالية، فالكرة المحلية هناك حينها ستعود أكثر قوة ورغبة وحماسة، لعدة أسباب، أشرح شيئاً منها هنا:
1 روح المجموعة والوطنية: الرجل الذي يقبل دوره في دكة الاحتياط خاصة في فترات تألقه، ذلك ما يقال عنه، روح المجموعة. والشخص الذي يطيل صبره مع مدرَبين تبدأ حكاويهم الاستفزازية ولا تنتهي، فيكتفي بالصمت والعمل والنتيجة، هو ما ينقص كثير من العباقرة الذين يعبَرون عن غضب تبديلهم بأسوأ الأساليب ويفقدون حينها مكانتهم ككبار لأنفسهم وكمثل أعلى لمشجعينهم دون أن نضطر لذكر أسماء بعينها، فكل لاعب يعرف نفسه وكل مشجع كذلك!- واللاعب الذي يقف في صف الحيادية حتى مع فريقه يوفنتوس كقرارته في تأييد بطولاتهم المسلوبة بطريقة دبلوماسية، أو كتشجيعه فرق الكالشيو في دوري أبطال أوروبا بمختلف انتماءاتهم و"عداواتهم"، هو شئ غير متاح في الوقت الراهن- مع بقية الوجوه، مثل بعض الأسماء الأسطورية في ميلان التي تمنت أن يخسر انترناسونالي في نهائي البرنابيو، والعكس كذلك في نهائي اسطنبول!
2 دبلوماسية فاخرة تصف شخصية قيَادية: مثال لذلك، فإنه لا يوجد أحد لم يسلم من "كاريكاتيرات" المميز جوزيه مورينيو، الذي قال عن دل بييرو بأنه لاعب جيد لم يفز حتى بالكرة الذهبية، فأجابه دل بييرو:"هو مدرب عبقري، ربما شخصيته استفزازية بعض الشئ لكنها مميزة..سأدعوه مرة للعشاء لأتعرف عليه أكثر". ولو ذهبت أفكارنا أكثر عمقاً، لتذكرنا تصريحات روبرتو باجيو عن تراباتوني حينما قال بأنه لن يغفر له أبداً لأنه لم يستدعيه لكأس العالم 2002..وبينما رفض ليبي استدعاء عنصر الخبرة دل بييرو في جنوب أفريقيا 2010، قال الأخير:"احترم قرارت المدربين، خاصة هذا الرجل، وأساند المنتخب الوطني قلباً وقالباً". وحينما كان أريغو ساكي يمارس لعبة "الشطرنج" بمشاكله مع لاعبو الكالشيو عبر برامجه التلفزيونية كتلك مع ابراهيموفيتش، فإنه تهجم على دل بييرو على الهواء مباشرة في عام 2003 وقال له بأنه لاعب عادي، فابتسم دل بييرو وبينما كان الجميع ينتظر الإجابة، كانت تلك الابتسامة هي الإجابة!
3 قبلة يحذو طريقها المواهب: فلنا في المواهب ماركيزيو، جوفنيكو، باستوري، كافاني، وغيرهم..الذين كثيراً ما قالوا بأن حلمهم تحقق باللعب بجانب دل بييرو، ومنهم من راح كباستوري إلى مقاعد البدلاء ليلتقط قميص أليساندرو من هناك! لا شك بأنها ميزة فريدة من نوعها في التعامل مع "المواهب". الفكرة ليست شهرة، بقدر ما هو فرق كبير حينما يكون الرئيس "محبوب من بين الناس". يكفي أن دل بييرو فاز خمسة مرات بجائزة الشخصية الرياضية الأكثر شعبية في ايطاليا.. في الواقع أنه لا يوجد رياضي واحد في ايطاليا فاز بها أكثر من مرَة! وحتى يومنا هذا ومنذ وصول باجيو وساكي للمنصة الفنية في اتحاد الكرة، لم نرَ أي امتيازات، ولم نراهم سوى مرَة واحدة في المدرجات خلال مباراة تشيزينا وميلان، في الحقيقة أن المواهب لن تكون هناك أبداً!!
4 - ونصل إلى منتصف الهرم، الحيادية. دل بييرو الذي أعلن في 2010 بأنه يفضَل عليه فابرتزيو ميكولي للمشاركة في كأس العالم بفضل تألقه وتميزه، هو ذلك فعلاً ما ينقص الكرة الإيطالية..الحيَادية والنزاهة. فلطالما تخبط اتحاد الكرة بقرارات غريبة تخلق الشك في قلب كل مشجع، في صورة تنم عن إرضاء ميول هذا على حساب ذاك! على أية حال، لم أتحدث عن أبرز نقطة وهي الأخلاق. في الواقع هي قاعدة الأشياء..وبينما امتكلها دل بييرو باقتدار، استطاع بفضلها أن يبني هرماً وصل به إلى القمة مع نفسه وعائلته وفريقه وشعبه وحتى أولئك الذي لا يطيقون يوفنتوس وقفوا يوماً ليحيوا أهدافه وشخصه.
ربما رأئي في رؤية دل بييرو رئيس الكرة الإيطالية "نكتة مستحيلة" أو وحي من الخيال، لكن وطنيته العميقة هي الأعلم بأحوال الكرة وما تشتكيه من سوء تنظيم وملاعب تاريخية ومواهب مدفونة منها من فضَل الهروب من جنة لم تدعمه فلم يشعر بها. أعلم بأن دل بييرو ما زال يلعب ويسجل وقادر حتى على فعل ما يمتلكه أولئك المراهقون والشبَان ولا يقدموه حتى، ولكن كثيراً من عشَاق الكرة الإيطالية يتمنون أن يأتِ شخص مثل وطنية دل بييرو لينقذ الكرة من سباتها العميق..بيتَ أني مؤمن أن البقية منكم يعتقد أن ذلك المنصب مخصص فقط لأصحاب الخبرة الكبيرة، ولكنه في الواقع هو روح ومجموعة..قد يديره واحد من الناس بامتياز روح الوطنية، وقد يدمره عبقري بحمى أنَا النفس.
admcsport.com